فصل: الشبهة الحادية عشرة وجوابها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدخل لدراسة القرآن الكريم



.الشبهة العاشرة وجوابها:

قالوا: كيف اعتمدتم المصحف وفيه من الخطأ الظاهر واللحن والاختلاط ما لا يكاد يخفى على من له علم بالعربية ومثلوا لذلك بما يأتي:
أ- قوله تعالى: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} [البقرة: 177] والظاهر: {والصابرون}.
ب- قوله تعالى: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الأنبياء: 3]، {ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ} [المائدة: 71] والظاهر أن يقول: (وأسرّ) (عمي) (صمّ).
ج- قوله تعالى: {لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون: 10] وكان الظاهر أن يقول: {وأكون}.
والجواب:
أن هذه مزاعم باطلة منشؤها الجهل بلغات العرب ومذاهبهم في الخطاب، وأساليبهم في البيان، وقد شاء الله سبحانه- وله الحكمة البالغة- أن يجيء القرآن الكريم- عدا اللغة القرشية السائدة فيه- مشتملا على بعض لغات العرب واستعمالاتهم سواء في ذلك الفصيح والأفصح ولذلك سر؛ ذلك أن القرآن هو كتاب العربية الأكبر، وجامعة العرب الكبرى، ومرجعهم الأوثق في معرفة أساليب العرب في البيان، ومذاهبهم في التعبير، فكان الأليق والأوفق أن يأتي مشتملا على المقبول السهل منها غير المستهجن والمستثقل، ليجد العرب فيه ما يرضي أذواقهم وملكاتهم، وإليك بيان وجه الحق فيما ذكر.
أ- أما قوله: {وَالصَّابِرِينَ} فهو منصوب على المدح يعني وأمدح الصابرين، وإنما غاير في الأسلوب، ولم يأت على نسق ما سبقه، تبيانا لفضيلة الصبر، وبيان منزلته من البر، فكأن الله سبحانه يبين لنا أنه وإن جاء في الذكر آخرا فهو بمكان من الفضيلة والمثوبة الحسنة. وقد قدمت عن أئمة اللغة والنحو ما للعرب من التفنن في النصب على الاختصاص، وغير خفي ما لتغير الأسلوب، والتفنن في الخطاب من أثر جليل من الناحية النفسية، لأنه يجذب الانتباه، ويوقظ الشعور، ويحمل العقول على التساؤل والبحث، فتتمكن المعاني في النفس فضل تمكن؛ فلله در التنزيل، فكم له من أسرار ولطائف.
ب- وأما قوله: {وَأَسَرُّوا ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا} فهو وارد على بعض لغات العرب، وهي لغة: أكلوني البراغيث، ولها شواهد كثيرة في العربية، وهذه اللغة تخرج على أن اللواحق بالأفعال ليست ضمائر وإنما هي علامات على التثنية أو الجمع، وما بعدها هو الفاعل، أو أن تكون اللواحق هي الفاعل والظواهر بعدها بدل منها، أو فاعل لفعل محذوف يفسره المذكور، والتقدير في الآية مثلا: وأسروا النجوى أسرها الذين ظلموا.
ج- وأما قوله تعالى: {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} ففيها قراءتان سبعيتان: الأولى: وأكون بالنصب، وبها قرأ أبو عمرو، ووجهها ظاهر، الثانية: {وَأَكُنْ} بالجزم، وتخرج على أنها عطف على المعنى، فإن الكلام في معنى الشرط، فكأنه سبحانه قال: {إن أخرتني إلى أجل قريب أصدق وأكن}، وهذا النوع يسميه النحويون العطف على التوهم، وهو باب معروف في العربية.

.الشبهة الحادية عشرة وجوابها:

ما رواه الإمام أحمد بسنده، عن إسماعيل المكي قال: حدثنا أبو خلف مولى بني جمح أنه دخل مع عبيد بن عمير على عائشة رضي الله عنها فقالت: مرحبا بأبي عاصم ما يمنعك أن تزورنا أو تلم بنا فقال: أخشى أن أملك فقالت: ما كنت لتفعل، قال: جئت لأسألك عن آية من كتاب الله عز وجل كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأها؛ قالت: أية آية قال: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا} أو {الذين يأتون ما أتوا}، فقالت: أيتهما أحب إليك فقلت: والذي نفسي بيده لإحداهما أحب إلي من الدنيا جميعا، أو الدنيا وما فيها.
قالت وما هي فقلت: {الذين يأتون ما أتوا} فقالت: أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك كان يقرأها وكذلك أنزلت ولكن الهجاء حرف، فهي توهم أن القراءة الأخرى غير ثابتة، وأن الرسم ليس بمجمع عليه.
والجواب:
1- أن هذه الرواية في سندها إسماعيل المكي وهو ضعيف فلا تعارض القطعي الثابت بالتواتر، ولا يثبت بها قرآن، حتى ولو كانت صحيحة.
2- هذه الرواية على فرض صحتها لا تفيد إنكار القراءة الثابتة التي أجمع عليها السبعة، وهي: {يُؤْتُونَ ما آتَوْا} وقولها: إن رسول الله كان يقرأ بها وكذلك أنزلت، لا ينافي أن تكون القراءة المتواترة منزلة، وقرأ بها النبي ولاسيما وهي المتواترة التي أجمع عليها القراء السبعة، وأما القراءة الأخرى التي وافقت السيدة عائشة السائل على استحسانها فهي غير متواترة ولا يثبت بها قرآن، وقد ذكرت في بعض كتب الحديث؛ ولكن لم يروها القراء من طرقهم ولعلها مما نسخ من القراءات في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، أو مما ترك عند جمع القرآن لعدم ثبوتها وتواترها، وأما قولها: إن الهجاء حرف فالمراد بالحرف اللغة أي: القراءة الثابتة لغة، ووجه من وجوه الأداء للقرآن، ولا يصح أن تريد من الحرف الخطأ والتحريف إذ اللغة لا تشهد له.

.الشبهة الثانية عشرة وجوابها:

قالوا: روي عن خارجة بن زيد أنه قال: قالوا لزيد: يا أبا سعيد أوهمت إنما هي: ثمانية أزواج من الضأن اثنين اثنين، ومن المعز اثنين اثنين، ومن الإبل اثنين اثنين، ومن البقر اثنين اثنين، فقال: لا، إن الله تعالى يقول: {فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى} فهما زوجان كل واحد منهما زوج، الذكر زوج، والأنثى زوج.
قالوا: فهذه تدل على تصرف النساخ في المصحف، واختيارهم ما شاءوا في كتابة القرآن.
والجواب:
إن هذه الرواية- على تسليم صحتها- لا تدل على ما زعموا وإنما هي بيان وتوجيه لما كتبه وقرأه، وثبت عنده سماعا من النبي صلى الله عليه وسلم لا تصرفا من تلقاء نفسه، وقد فهم المستشكل أن الزوج لا يطلق إلا على الاثنين المتزاوجين فبين له سيدنا زيد رضي الله تعالى عنه وأرضاه أن الزوج كما يطلق على الاثنين المتزاوجين يطلق على كل واحد منهما أنه زوج، واستدل له بالقرآن الكريم الذي هو الحجة البالغة، وقد اقتنع السائل وسكت، والصحابة الذين كتبوا القرآن، والذين حملوه، وبلغوه لمن بعدهم كانوا الغاية في الضبط، والتثبت والأمانة الفائقة، وفي الذروة منهم زيد بن ثابت، الذي كان كاتب الوحي بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم، والذي حمل العبء الأكبر في جمع القرآن في عهد الصديق، وعهد عثمان رضي الله تعالى عنهما.

.رد عام:

وهنا رد عام، يرد به على كل ما سبق من شبه، وهو أن العمدة في القرآن وحفظه هو التلقي، والسماع من النبي صلى الله عليه وسلم، أو ممن سمع منه أو سمع ممن سمع منه، وهكذا حتى وصل إلينا القرآن غضا كما أنزل ولم يكن يؤخذ القرآن من الصحف، أو المصاحف المكتوبة وإنما كان القصد من المكتوب معاضدة المحفوظ، والرجوع إليه عند الاختلاف في القراءة، أو الرسم، وأن الذين عزيت إليهم هذه الروايات، ولاسيما ابن عباس وتلامذته، قد قرءوا بالقراءات الثابتة المتواترة على خلاف ما نقل عنهم من الطعن فيها مما يدل على بطلان هذه الطعون.
وبعده:
فلعلك رأيت معي أن هذه الشبه وأمثالها أوهى من بيت العنكبوت فلا تلق إليها بالا، ولعلك ازددت يقينا بأن القرآن كما هو في المصاحف اليوم، هو هو ما أنزل على نبينا محمد، وأن كل ما يخالف هذا المتواتر القطعي فهو مردود باطل، وأن القرآن لا يثبت برواية آحادية، ولو بلغت أعلى درجات الصحة، فكن على ذكر من كل ذاك، ثبتنا الله وإياك بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

.شكل القرآن:

الشكل: هو ما يدل على عوارض الحرف؛ من حركة وسكون، سواء أكان ذلك في أول الكلمة أو وسطها أو آخرها، قال في القاموس مادة شكل: والكتاب أعجمه كأشكله؛ كأنه أزال عنه الإشكال أي: وشكل الكتاب ولا شك أن ما يميز الحرف من جهة كونه متحركا أو ساكنا يزيل إبهامه، وإشكاله، فبين المعنى اللغوي والاصطلاحي مناسبة ظاهرة.
وقد اتفق المؤرخون على أن العرب في عهدهم الأول لم يكونوا يعرفون الشكل بمعناه الاصطلاحي بل كانوا ينطقون بالألفاظ مضبوطة مشكولة بحسب سليقتهم وفطرتهم العربية من غير لحن، ولا غلط، لما كان متأصلا في نفوسهم من الفصاحة والبلاغة، واستقامة ألسنتهم على النطق بالألفاظ المؤلفة على حسب الوضع الصحيح من غير حاجة إلى معرفة القواعد، ولذا لما كتبت المصاحف في العهد الأول جردت من الشكل والنقط، اعتمادا على هذه السليقة، وعلى أن المعول عليه في القرآن هو التلقي والرواية، فلم يكن بهم حاجة إلى الشكل، فلما اتسعت رقعة الإسلام واختلط العرب بالعجم فسدت الفطرة العربية، ودخل اللحن في الكلام، وحدثت حوادث نبهت المسلمين إلى القيام بحفظ القرآن الذي هو أصل الدين ومنبع الصراط المستقيم من أن يتطرق إليه اللحن والخطأ، وكان قد ظهر في المسلمين من عرف أصول النحو وقواعده، وبرع في حفظ القرآن وقراءاته، أمثال أبي الأسود الدؤلي، ويحيى بن يعمر العدواني قاضي خراسان، ونصر بن عاصم الليثي، وقد حدث أن سمع أبو الأسود الدؤلي قارئا يقرأ: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} بجر رسوله فأفزعه ذلك وقال: عز وجه الله أن يبرأ من رسوله، وذهب إلى زياد والي البصرة، وقال له: قد أجبتك إلى ما سألت، وكان زياد قد سأله أن يضع للناس علامات تدل على الحركات والسكنات فجعل للفتحة نقطة فوق الحرف، وللكسرة نقطة أسفله، وللضمة نقطة بين الحرف، وللتنوين نقطتين، وسار الناس على هذا النهج مدة، ثم بدءوا يزيدون ويبتكرون فجعلوا علامة للحرف المشدد كالقوس ولألف الوصل جرة فوقها أو تحتها أو وسطها على حسب ما قبلها من فتحة، أو كسرة، أو ضمة حتى كان عبد الملك بن مروان، واضطروا إلى وضع النقط الذي هو الإعجام للباء والتاء والثاء إلخ، فالتبس النقط بالشكل، فجعلوا لكل منهما مدادا مخالفا للون الآخر، ثم وضعوا للشكل علامات أخرى وهي العلامات المعروفة اليوم؛ للفتحة والكسرة والضمة والشدة ونحوها، فجعلوا الفتحة ألفا أفقية من فوق الحرف والكسرة ألفا من تحت الحرف والضمة على هيئة رأس الواو والتنوين جعلوه حركة أخرى من جنس ما قبله: ضمة أو فتحة أو كسرة.
وبذلك صار القرآن مشكولا.